/ الفَائِدَةُ : (169) /
24/05/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / لا حصر للعبادة في الثلاثة المعهودة / المستفاد من بيانات الوحي : أَنَّ العبادات لا تنحصر في الثلاثة المعهودة ، الْمُشَارُ إِلَيْهَا في بيانات الوحي ، منها : أَوَّلاً : بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ، ولا طمعا في ثوابك ، ولكن وجدتك أهل للعبادة فعبدتك »(1) . ثَانِياً : بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْضاً : « إِنَّ قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإِنَّ قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإِنَّ قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار »(2) . وهذه بيانات وحيانيَّةٌ تعليميَّةٌ وأَوَّليَّةٌ . ومن ثُمَّ ورد في بيان دعاء الإِمام زين العابدين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في مناجاة التَّائبين خمسة عشر طوراً منها ، وهي : عبادة ومناجاة : التَّائِبِين ، والشَّاكِين ، والْخَائِفِين ، والرَّاجِين ، والرَّاغِبِين ، والشَّاكِرِين ، والْمُطِيعِين لله ، والْمُرِيدِين ، والْمُحِبِّين ، والْمُتَوَسِّلِين ، والْمُفْتَقِرِين ، والْعَارِفِين ، والذَّاكِرِين ، والْمُعْتَصِمِين ، والزَّاهِدِين . فهذه أَطَوَارُ عِبَادَات ؛ لها ترنُّمات روحيَّة ؛ تُوَلِّد للمخلوق حالات أُنس مع ساحة القدس الْإِلَهِيَّة ، فيأنس باللَّطائف النُّورَانِيَّة ، ويأكل ويشرب وينكح في العوالم النُّورَانِيَّةُ (3) ، ويستوحش من اللَّذائذ البهيميَّة الغليظة (4). وَلَكَ أَن تقول بعبارة أُخرى : أَنَّ للدِّين في التزاماته شِدَّةً ومَرَارَةً ووُعُورَةً ، لكنَّها للمُبْتَدِئ . أَمَّا لِمَنْ وصل إلى مراتب وطبقات العُلى فهي جِنَانٌ وروحٌ وريحانٌ وصفاءٌ ونورانيَّةٌ ؛ وأُنْسٌ وتَلأْلُؤٌ وتَشَعْشَعٌ واِنْبِساطٌ واِنْشِرَاحُ صَدْر ، ومن ثَمَّ كان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حينما يحين وقت الصَّلاة يُخَاطِب بلالاً : « يا بلالُ ، أقِمِ الصَّلا ةَ ، أرِحْنا بها » (5) ، فراحته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ في الصَّلاة وما شاكلها من الْأُمُورِ العباديَّة ، بخلاف أصحاب الدُّنْيَا والْمَادَّةِ ؛ فراحتهم تكمن في النَّوْمِ والشَّهَوَاتِ ، وَمِنْ ثَمَّ تستحيل عليهم هذه الفضائل ؛ مِنْ شرح الصَّدْرِ واللُّيونَّةِ والرَّأْفةِ والرَّحمةِ والسِّلمِ وما شاكلها ؛ لكونها مِنْ نصيب مَنْ يُدِين بشرع الله الكريم . ومنه يتَّضح : فساد ما تَخَرَّصه المُثقَّفون والعلمانيُّون والغربيُّون من أَنَّ حقيقة العبادة : إِكْرَاهٌ وفَرْضٌ وإِلْجَاءٌ وشِدَّةٌ . وعليه : فالإِشكالات التي يُثيرها البعض ـ كالفلاسفة ـ على الدِّين والتَّدَيُّن ـ سواء كانت ناظرة إِلى مقام الثبوت أَو إِلى مقام الإِثبات ـ إِذا تأَمَّل الباحث في بيانات الوحي وتَبَحَّرَ بشكل عميق لوجد أَنَّ سبب تلك الإِشكالات عدم الفهم العميق للدِّين ـ بما هو مُبيَّن في بيانات الوحي ـ من قِبَل ما يرسمه الْمُتَكَلِّمُون والفلاسفة وجملة من الفقهاء . وهذا بخلاف ما يرسمه البعض الآخر. مثاله : الميرزا النائيني ؛ فإِنَّ معنى الحُجِّيَّة ـ بمعنى دليل المعرفة والتَّعبُّد في الحُجِّيَّة ـ عنده أَنَّها طريقيَّة وليست تنجيز وتعذير ، وهذا يعني أَنَّ أَساس التَّعبُّد عنده هو : (الْعِلْمُ) ، وليس العقوبة والفرض ، والتَّطميع والثواب . وهذا يفتح طريقاً لنظريَّة المعرفة وخَرِيطَتِها ، وللتَّعبُّد والتَّديُّن في المعرفة بشكل أَعمق ، فيكون التَّعبُّد مزيد معرفة واتِّساع الآفاق ، لا أَنَّه ضيق المعرفة والآفاق ، فتكون غير الَّتي رُسمت من قِبَل المُتكلِّمين والفلاسفة وبعض الفقهاء. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) بحار الانوار ، 41 : 14 / ح4 . (2) المصدر نفسه . (3)هذه تعابير واردة في بيانات الوحي . (4)لَا بَأْسَ بالْاِلْتِفَات : أَنَّ اللَّذائذ يمكن أَن يُمارسها الانسان بشكل غليظ وبهيمي وظلماني ، ويمكن أَن يُمارسها بشكل لطيف نوراني . نظيرها : أكل الدواب ونكاحها ؛ فإِنَّ فيه دماء ومشقة ومعاناة ، بخلاف أَكل العصافير ونكاحها ، مع أَنَّ الجميع أفعالٌ حيوانيَّة ، لكنَّها على مراتب في الغلظة والوحشيَّة ، واللطافة واللُّيونَّةِ والرهافة . (5) سنن أبي داود - 4985